شارع السودان

 

شارع السودان مدينة كاملة، في بدايته ونهايته يكاد يشرب مباشرة من نهر النيل الذي يبعده والمنطقة المحيطة عن عوالم القاهرتين الفاطمية والخديوية، وامتداده يكاد يحيط محافظة باتساع وقدم الجيزة، فهو يبدأ من حافة قلبها أو أصلها. المعماري ويربط أشهر ميادينها وأحيائها قبل أن يبلغ نهايته وسط ميدان «الكيت كات»، وإلى جوار السكة الحديد التي تربط من خلاله شاطئ البحر المتوسط بحدود السودان.  ويضم الشارع أربعة كبار ضخمة وموقفين لوسائل المواصلات، وأسواقا شعبية ومراكز تجارية تبيع من الإبرة للصاروخ، ومكاتب صحفية، وإدارات خدمية وتعليمية، وعددا من المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، وقاعات ومعاهد وكليات جامعة القاهرة وكل ذلك وغيره لخدمة سكان الشارع الذين تشقهم أرضه إلى طبقتين اجتماعيتين مختلفتين الأولى وهي الأرقى والأكثر ارتياحا على المستوى المادي، تقع. لو اجتزته من ناحية ميدان الجيزة .

 

 

 

على ضفته اليمنى حيث عمارات وفيلات حي المهندسين، والثانية تقع على ضفته اليسرى حيث حواری وعشوائيات حي بولاق الدكرور الشارع حديث إلى حد ما، ويعد ضمن أطول شوارع القاهرة الكبرى وأكثرها استقامة وتنظيما، واسمه «السودان على المستوى الرسمي المعلن يعود إلى الروح القومية العروبية التي اندلعت في مصر والعالم العربي عبر نبرات صوت الزعيم جمال عبدالناصر. أما على المستوى التاريخي والاجتماعي فيعود إلى العلاقة الشعبية الوطيدة التي ربطت سكانه القدامى وخصوصا في جانبه البولاقي بأدغال السودان وإفريقيا، فحسبما أخبرنا المؤرخ على مبارك وقبله المؤرخ العظيم المقريزي .. فإن حي بولاق الدكرور الذي يعتبر الأصل المعماري للشارع والمنطقة كان حينما شيدت القاهرة، الفاطمية عبارة عن قرية صغيرة عرفت باسم «مينة بولاق» وعندما نزل بها صاحب الكرامات الشيخ السوداني وقيل الإفريقي أبو محمد يوسف بن عبدالله التكروري وغيره من الأفارقة في عهد الخليفة العزيز بن المعز الفاطمي عرفت باسمه وصارت «مينة بولاق التكرور» التي حرفت بعد ذلك إلى بولاق الدكرور كلمة تكرور التي حرفت لدكرور كما أخبرنا القزويني في كتابه «آثار البلاد وأخبارالعباد» هي لمدينة كبيرة كانت تقع في بلاد السودان. وقيل في غرب إفريقيا ، ومما يرجع ذلك أن القزويني حينما يقول السودان فإنه يقصد بذلك كافة بلاد إفريقيا السوداء، وقد قال إن التكرور كانت مدينة عظيمة بلا أسوار ، وأهلها كانوا من المسلمين وغيرهم، والملك فيها كان للمسلمين، وقال إن أغلب أهلها كانوا يسيرون عراة سواء كانوا رجالا أو نساء، فلم يكن يرتدي الملابس منهم سوى أشراف المسلمين، وقد كانوا يلبسون قميصا طوله عشرون ذراعا يحمله، أثناء سيرهم خدمهم وأتباعهم، كما أن نساء غير المسلمين من أهالى التكرور کن يسترن عوراتهن بخرزات من العقيق ينظمنها في الخيوط لو كن ثريات، أما لو كن من الفقيرات فيسترن أنفسهم بخرزات من العظم، وقد ذكر القزويني أيضا أن مدينة التكرور كانت تشتهر بكثرة الزرافات وكان أهلها يذبحونها ويلتهمون لحمها.

 

 

مأساتان الشارع بالإضافة إلى أصوله التكرورية أو السودانية ارتبط بمأساتين تاريختين دقتا مسمارا قويا وباترا في نعش سلطة الأمراء المماليك في مصر، الأولى وقعت بالقارب من نقطة بداية الشارع من ناحية ميدان الجيزة، وفيها بدأ محمد على باشا يسفر عن خطة تحجيم وإذلال قادة المماليك، فأثناء المفاوضات والمناوشات التي وقعت بين محمد على والمماليك بالجيزة أخبر أحد رجاله قائد المماليك إبراهيم بك بأن عليه وباقي المماليك أن ينسوا للأبد امتيازاتهم وسلطتهم القديمة ويخضعوا لسلطة محمد على كرعایا عاديين، وكان ذلك التهديد أبرز الإجراءات التي ضيقت الخناق على المماليك خصوصا وأن محمد على باشا توجها بمذبحة القلعة.

 

 

المأساة المملوكية الثانية وقعت على حافة ميدان الكيت كات» في نهاية الشارع، وفي هذه المرة كانت بأيد أجنبية، ففي هذه المنطقة المتاخمة لنهر النيل انقضت مدافع الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت على قوات القائدين المملوكين إبراهيم بك وماد بك، ودمرتها تماما شارع السودان يبدأ بكوبري فيصل ويحتضن إلى جانب قطار الصعيد الذي يمتد من أوله إلى آخره المباني الخلفية لجامعة القاهرة ، غير أنه رغم قربه من الجامعة لم يلتحم بها على المستوى العملي سوى في السنوات الأخيرة، فقد كان بالنسبة للطلبة مجرد خلفية مهملة، وحينما أنشئت به إحدى محطات مترو الأنفاق توثقت علاقتهم به فقد صار المحطة التي لابد من اجتيازها للوصول إلى الجامعة. محطة المترو تظلل الشارع وتضع العابرين خصوصا من الطلبة والطالبات أمام باب كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وبعدها تظهر ناصية شارع ثروت الذي أطلق عليه اسم العالم أحمد زويل بعد أن فاز بجائزة نوبل. 

 

 

 

الهيئة العامة للنظافة وشركة المياه الغازية ومئذنة مسجد الصفا والمروة ومشتل الزهور. تمهد للمنطقة الأكثر حيوية بشارع السودان، حيث التقاؤه بشارع التحرير وتقسيمه لسكانه إلى طبقتين اجتماعيتين واضحتين ومختلفتين، إحداهما تسكن حي المهندسين الذي يقع على ضفته الشرقية، والأخرى تستوطن حي بولاق الدكرور على ضفته الغربية. هذه المنطقة من الشارع تعرف باسم مقار نسبة لمعرض سيارات يحمل نفس الاسم، ويشتهر أهلها خصوصا في جانبها الغربي البولاقي بزراعة مشاتل الزهور ونباتات الزينة فوق منازلهم، معظم البيوت القديمة متوجة بالخضرة ومعطرة بروائح الورود، وهذه العادة ترجع إلى أن هذا الجزء من الشارع قبل أن تداهمه العمارات السكنية كان يمد القاهرة بمعظم ما تحتاج إليه من الزهور ونباتات الزينة. وعلى حواف الشارع عدد من مكاتب الصحف العربية، وبعدها يبدأ ما يشبه الصراع الخفي بين محلات جانبه التابع لبولاق ومحلاته التابعة للمهندسين ، فكل منها يحاول أن يفرض ذوقه وبضائعه على أرض الشارع، غير أن موقف الأتوبيس الذي يقع في وسط هذه المنطقة سرعان ما يحسم الصراع لصالح بولاق فهو لأسباب عديدة يتبع ويخدم الجانب البولاقي. 

 

 

 

وبعد ناصية شارع جامعة الدول العربية يهدأ الشارع كثيرا على مستوى المارة والمحلات ويخضع لسيطرة سكانه المنتمين لحى المهندسين ، ولعل نظافته وأسماء ونوعية محلاته يمكن أن تؤكد ذلك بشكل أوضح ومنها فيلا سفارة الجابون وعمارة أنيقة تملكها محلات السلام، واستديو فوتو دريم الذي تتباهي واجهته بازدحامها بصور مشاهير الفنانات، ومقهى في منتهى الأناقة متوج بصورة بالحجم الطبيعي للعندليب عبدالحليم حافظ. ولكن سرعان ما يعود الطابع الشعبي للشارع أمام كشرى السلطان أبو العلا الذي يمهد مع جيش من الباعة الجائلين المنطقة «الكيت كات» التي كتب عنها إبراهيم أصلان روايته «مالك الحزين» التي أخرجها داود عبد السيد في فيلم حمل اسم المنطقة ويعد واحدا من أنجح وأبدع أفلام السينما المصرية، وفيه أدى الفنان محمود عبدالعزيز واحدا من أبرز أدواره على الإطلاق ، وبالتحديد وسط ميدان الكيت كات وأمام تدفق مياه نهر النيل يضع شارع السودان أخر خطوات رحلته الطويلة.

 

 

Comments

  • No comments yet.
  • Add a comment