شارع مصدق

 

شارع مصدق في الجيزة يقع بين شارعى السودان والدقي دخلته في لحظة يمكن اعتبارها استراتيجية، الأمطار كانت تهطل بغزارة، ورواد الشارع كانوا يتوارون منها بمرح، كانوا هم والمطر أشبه بواحد يلاعب طفله، يتقافزون ويختفون تحت تندات عمارات ومحلات الشارع، وحرصا على التمتع ببهجة المطر، كانوا يظهرون ويتركون جباههم وملابسهم تنعم بنصيبها من زخات المطر، وفجأة سقط أحدهم، وانحدرت قدمه اليمنى إلى اليمين واليسرى إلى اليسار وأحدث انسحاق جسده في أوحال المطر ما يشبه الانفجار، كان رجلا محترما، في حوالي الخمسين من عمره ويمتلك كرشا متينا يطل على استحياء من تحت ربطة عنق عريضة. كنت على بعد خطوات منه، ولا أعرف لماذا تكاسلت عن إنقاذه، كان يمكن أن أسنده، ولكني تركته ينسحق في الوحل أمام عيني، منظره يوحي بأنه من السكان الأصلاء بالشارع، أتوقع أنه محام أو طبيب أو محاسب من أولئك الذين وجدوا في الشارع فرصة تحقيق طموحاتهم المهنية بعد ما ازدحم أو اختنق وسط القاهرة، فالشارع بفضل تميز موقعه وحسن تنظيمه ورفاهية سكانه صار من الأماكن المرغوبة، لذلك فإن مجرد الحصول على شقة أو مكان فيه يعز إلا على ذوي الإمكانيات والحيثيات العلمية والمادية.

 

 

مدخل الشارع من ناحية شارع السودان كان مزدحما بالناس والسيارات، ناصيته التي تقع أمام محل «الباشا ماركت» كانت أشبه بتقاطع مروري مزدحم أو حتى مختنق، الجميع لا يجد حلا للعيش بسلام مع المطر سوى في أرض الشارع، يمكن القول إنهم كانوا في حالة فرار جماعي من ويل الأمطار عند جيران الشارع في حي بولاق الدكرور. .الناس في العادة يحبون المطر ويطربون لانحدار قطراته على جباههم، في مدينة مثل القاهرة ومدن الشرق عموما بعد المطر بشير خير ورخاء، ولكن المطر في حي مثل بولاق الدكرور . جار الشارع الفقير . شيء آخر، إنه «معجنة» بالمعنى الحرفي للكلمة، لذلك فإن الجميع لجأوا إلى أرض شارع مصدق ولجؤهم إلى أرض الشارع ليس جديدا أو بدافع من ظروف الطقس فقط، فقديما ابتداء من عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، كان حي بولاق عبارة عن قرية صغيرة يعود تأسيسها لشيخ صوفي ترجع أصوله إلى غرب إفريقيا، وكان سكانها . وأغلبهم من الأفارقة. ينزلون من بولاق لزراعة أرض الشارع والمنطقة نظرا الخصوبتها التي ترجع لاقترابها من نهر النيل، كما كان أهالي الجيزة ينزلون أو يفرون إلى أرض شارع مصدق للحصول على ما يريدون من المحاصيل.

 

 

 

تنظيم وحداثة معظم سكان شارع مصدق – الحاليين . ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، سواء من الموظفين أو أصحاب المشاريع التجارية الصغيرة أو الذين عادوا إلى القاهرة بعد أو قضوا سنوات عمل مجزية في الخارج، كما أن الشارع والمنطقة المحيظة به من الأماكن المفضلة لسكن زوار القاهرة من البلاد العربية خصوصا من الخليج العربي فهو يجاور منطقة المهندسين التي تتمتع بسمعة طيبة بين أحياء القاهرة، فهي تتميز بحسن التنظيم وحداثة العمارة والقرب من وسط المدينة وقديما كان سكان شارع مصدق والمنطقة خليطا من الفلاحين، فقد كان أرضا زراعية تحدها. من الغرب بولاق التكرووي التي حرفت فيما بعد إلى الدكرور ومن الشرق الفرع الثاني لنهر النيل وكان يعرف باسم البحر الأعمى لأن الماء كان يجف منه فترة معينة كل عام.

 

 

 

وفي عهد أسرة محمد على أي بعد زحف العمران من كل جانب بدأت أرض الشارع والمنطقة المحيطة تتراقص في مخيلة المسئولين والمعماريين باعتبارها من الأماكن  الجديرة باحتضان امتدادات واتساعات القاهرة الحديثة، وفي ثلاثينيات القرن الماضي اختارها صاحب العزة أحمد خيري بك . مدير مصلحة التنظيم في تلك الفترة . لإقامة  مدينة على الطراز الأوروبي تحمل اسم «الفؤادية» نسبة للملك فؤاد في ذلك الوقت كانت أرض الشارع ملا خاصا لوزارة الأوقاف المصرية وهذا ما اعتبره صاحب العزة  أحمد خيرى بك فرصة مواتية لتطبيق قواعد العمارة الحديثة في المدينة المقترحة، وفي محاضرته التي ألقاها في جمعية المهندسين الملكية عام ???? قال إن كون هذه المنطقة أرض شارع مصدق وما جاورها ملكا خاصا للحكومة المصرية يوفر مجالأ حسنا لتطبيق قواعد الفن الحديث من شوارع رئيسية وأخرى جانبية وأحياء للطبقات الراقية وأخرى للمساكن الخاصة بالطبقة الوسطى وثالثة للعمائر السكنية ومنازل العمال والأحياء التجارية والصناعية والمتنزهات العامة والملاعب الشعبية والأحياء المدرسية والميادين.

 

 

وأضاف أن للحكومة باعتبارها مالكة هذه المنطقة مطلق الحرية في تعميرها وبيعها بالشروط التي تضعها، والخاصة بالبناء والصحة والتجميل، ولها الحق في إيجاد وسائل  النقل وإنشاء محطات للإنارة وإيصال المياه ومد المجاري وغير ذلك من أسباب العمران والرخاء مما يكفل إنشاء حى راق متصل بالعاصمة يدر على الحكومة ربحا وفيرا. كما اقترح صاحب العزة نقل النوادي الرياضية من مكانها بالجزيرة في ذلك الوقت إلى منطقة الشارع على أن يحول موقعها بالجزيرة إلى غابة عظيمة أو متنزه عام أسوة بعواصم أوروبا.

 

 

معظم ما اقترحه صاحب العزة أحمد خيرى بك تم تنفيذه في أرض الشارع والمنطقة فقد مدت الشوارع المستقيمة وطبقت قواعد العمارة الحديثة، ولكن تحت اسم غير الذي تمناه، فبدلا من «المدينة الفؤادية» صار اسمها «حي المهندسين» نسبة لعمارات سكنية أقامتها نقابة المهندسين للعاملين بها.

Comments

  • No comments yet.
  • Add a comment